قبل سنوات صدر باللغة الانكليزية كتاب ممتاز تحت عنوان(لماذا نجحت اليابان ....التكنولوجيا الغربية والروح اليابانية).
ومؤلف الكتاب هو استاذ ياباني في علم الاقتصاد يعمل في مدرسة لندن للاقتصاد يدعى موشيو موريشيما , وله مؤلفات محترمة في علم الاقتصاد تؤكد جدارته في تناول التجربة اليابانية بالتحليل.فهو ليس مجرد ياباني يراقب مايحصل في بلده ويخبرنا عن مشاهداته , بل هو عين خبيرة تفهم دلالات الأشياء والعلاقات السببية بينها.
إنني عندما أسوق هذه المقدمة المختصرة فإنما لبيان الشرعية التي تتمتع بها آراء هذا الرجل ومدى واقعيتها.
يوفر الكتاب تفسيرا جديدا للنجاح الحالي الذي تشهده اليابان. فعن طريق وضع الصعود الياباني في اطار تطوره التاريخي ,فان الكاتب يبين لنا كيف ان التمسك القوي بالروح القومية بتفاعله مع الافكار الدينية والاجتماعية والتكنولوجية المستوردة من كل مكان, يمكن ان ينتج خصائص فريدة.
وفي الوقت الذي يتتبع الكاتب جذور اليابان الحديثة وصولا الى بدايات دخول الكونفوشيوسية والتاوية والبوذية من الصين في القرن السادس , فانه يركز دراسته على نحو خاص على المئة والعشرين سنة الاخيرة والتي كان لليابان خلالها احتكاك مكثف مع الغرب.
انه يقدم لنا وصفا للصعود السريع لليابان إلى مرتبة الدول من الصف الاول على اثر مايعرف بثورة ميجي عام 1867 والتي جعلت اليابان تكسر تاريخا طويلا من حاجز العزلة التي فرضتها على نفسها.ان ذلك قد عبد الطريق لتبني التكنولوجية الغربية والى خلق امة عصرية تأخذ بالطراز الغربي وكذلك كان لها الفضل في نهوض اليابان البالغ السرعة من دمار الحرب العالمية الثانية.ويستعرض الكاتب مجموعة من العوامل التي ساهمت في النجاح الاقتصادي الياباني من أهمها :
1- الاستجابة لمتطلبات المؤسسات مختلفة الحجوم (كبيرة وصغيرة ومتوسطة)
2- العلاقة بين الحكومة والمؤسسات الكبيرة
3- الاستقبال الفاتر في اليابان لمفاهيم الليبرالية والفردية
4- قوة الشعور القومي الياباني
5- ومن أهم العوامل التي ركز عليها الكاتب هي الكيفية التي أقيمت بموجبها الرأسمالية اليابانية والتي استندت على مبادئ أخلاقية تتلاءم مع الظروف اليابانية وخاصة مع تقاليد الكونفوشيوسية اليابانية التي تفرض الولاء التام للمؤسسة والى الدولة.
وتجنبا للإطالة سوف اختار مجموعة من الملاحظات الختامية المستقاة من الكتاب والتي أرى انها ذات أهمية للقارئ وخاصة العراقي:
= في عام (1258) وهي نفس سنة سقوط بغداد على ايدي المغول, تبنت اليابان نظام يشبه نظام مجلس الخدمة العامة الذي كان في العراق والغي في السبعينيات. هذا النظام يستند الى فلسفة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب, حيث كان يعلن عن كل الوظائف ,عدى وظيفة الامبراطور, وتطرح للمنافسة بين جميع المواطنين عن طريق الاختبارات لاختيار الافضل بغض النظر عن طبقته الاجتماعية.حيث ان المواطن من الطبقة الدنيا قد ينجب ابنا يستحق العمل في اعلى المراتب والعكس صحيح ايضا.وهذا يتفق مع المباديء الافلاطونية التي تصنف الناس الى معادن لكنها تقر بامكانية المعادن الرديئة ان تنجب معادن كريمة والعكس صحيح.وبالتالي تلغي التوريث وتسمح بما يعرف في الادب السياسي الحديث(الحراك الاجتماعي)
وكان الاعلان يتم عن طريق تجوال الموظفين المكلفين بالإعلان في الطرقات وضرب الطبول للفت انتباه الناس ومن ثم قراءة الاعلان عن الوظيفة على الملأ بصوت عال !!!.
واعتقد ان هذه قد تكون من بين اهم أسباب النهضة اليابانية. فليس اخطر من وضع الأشخاص غير المناسبين في اماكن غير مناسبة.
= تحرم الكونفوشيوسية "الشك" !!حيث لايجوز لأحد أن يشك في احد آخر ويسكت بل يجب عليه دينيا أن يذهب ويخبره بشكوكه فيه. ان ذلك المبدأ العظيم سوف يمنح الناس الفرصة للدفاع عن أنفسهم وكذلك لايسمح بنمو وتراكم الضغينة بين الناس. ولاشك ان في ذلك صحة روحية وجسدية هائلة نظرا لما تورثه الضغينة من أذى !!!!!
= الحضور الواضح للمباديء الاخلاقية للكونفوشيوسية في ميدان الاعمال من حيث عدم الغش لانه محرم وكذلك تقديس العمل وتحريم عدم الاخلاص في العمل والولاء للمؤسسة وعدم الاستعداد للتنقل بين المؤسسات بحثا عن اجور افضل لان ذلك يثلم شرف المهنة للشخص.